عدد مهول من المسؤولين على رأسهم رئيس الوزراء معتز موسى، أرجعوا الأزمة الطاحنة التي تعيشها البلاد الآن إلى انفصال الجنوب... لكن بكل تأكيد ليس ذلك هو مكمن الأزمة والضائقة والأوضاع الكارثية التي نعيشها الآن.. فكل ما يبدو من أزمات اليوم هو نتيجة لمشكلة واحدة هي غياب القانون... وغياب القانون أنتج الظلم والفوضى واحتكار السلطة وتبديد موارد الدولة وكل أشكال الفساد..غياب القانون أضاع هيبة الدولة وغذى أخطبوط الفساد... والفساد هو أكبر مهدد للأمن القومي وليس الأقلام التي تتناوله بتجرد وتنبه إلى خطره الماحق.
البلدان عادة ما تبني استراتيجياتها السياسية والاقتصادية والإعلامية على نظريات علمية مُجرّبة.. وطبقاً لذلك فإن أي نظام سياسي سيتخذ النظرية الاقتصادية التي تناسبه، وكذلك النظرية الإعلامية التي تناسب طبيعة المجتمع وتعزِّز أمنه القومي.. وبناءً على ذلك أتحسر وأقول لو أن استراتيجيتنا الإعلامية بُنيت على أهمية تثقيف الناس بالقانون وجعل ثقافة احترام القانون شائعة بين المواطنين، ولو أن هذه الاستراتيجية جعلت سيادة القانون وفرض هيبته على الكبار قبل الصغار وعلى الشريف قبل الضعيف وعلى وزراء الحكومة قبل المواطن، لو جعلته من أهم عناصر النشر، لاختفت كل مظاهر البؤس السياسي والإعلامي والاقتصادي السائد الآن، ولاختفت مظاهر الفساد بكل أشكاله وضروبه المالي والإداري والأخلاقي.
فرض هيبة القانون وسيادته على الكل دون انتقاء أو تدليس أو تهاون كفيل بإزالة كل التشوهات والغُبن والمحسوبية وكل تصدعات المظالم وشروخ استغلال النفوذ، وتصعيد الفاشلين والفاسدين إلى كابينة القيادة.
لو أن دور الإعلام انحصر في تثقيف الناس بالقانون والحقوق وجعل احترامه ثقافة راسخة في المجتمع، فذاك وحده إصلاح سياسي ونهضة اقتصادية وعدالة اجتماعية.. تعزيز هذه القيم العدلية كفيل برد المظالم إلى أهلها وكفيل بتحقيق العدل الذي هو أساس الحكم، وكفيل بالتغيير الذي ننشده.
للأسف بعض الأنظمة تكتب في دساتيرها مواد رائعة عن حرية التعبير وتكفل الحريات بمختلف أنواعها في نصوص محكمة ومنمقة يأسر بريقها الألباب، لكن سرعان ما تسقط في محكات الاختبار عندما تصطدم هذه النصوص بشهية النظام السياسي الجامحة ورغبته في مصادرة ما هو )مكفول( في الدستور، في وجود إعلام نفسه ضعيف ومضطهد ناهيك من كونه يصون الحقوق ويدافع عنها عندها تصبح )النصوص( مجرد كلام لا قيمة له، وبهذا يُمسي الدستور مسخاً مشوهاً وساحة مستباحة الحِمى مُنتهَكة الحرمات.
أعود وأقول إن ثقافة احترام القانون هي سلوك حضاري وقيمة إنسانية ودينية لا يعرف قدرها )المتجاوزون( للقيم والمبادئ ولا الدائسون على كرامة الإنسان وحقوقه والقوانين.
النصوص الدستورية ستصبح مجرد أحبار تسكب على ورق بلا قيمة إذا لم تفِ بالغرض الذي أُعِدَّت من أجله، وهي التي أخذ إعدادها وقتاً ثميناً من العلماء وجهداً مقدراً من خبراء القانون الدستوري وقادة العمل السياسي، وأقيمت لها مؤتمرات وورش العمل وأنفقت الدولة من مال شعبها على هذه النصوص إنفاق من لا يخشى الفقر، نعم ستصبح بلا قيمة إذا كانت عاجزة عن تحقيق العدل وتصفع الضعيف بلا رحمة، وتتوارى أمام الشريف وأصحاب الحصانات والنفوذ.. اللهم هذا قسمي في ما أملك.
نبضة أخيرة
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك