زاوية غائمة
جعفـر عبــاس
مقارنات بين الحاضر وما فات (
صرت خلال العامين الأخيرين أعاني من حرج شديد كلما حررت شيكا لصالح شخص أو جهة ما؛ لأن الشيك يرتد لعدم تطابق توقيعي عليه مع التوقيع الذي سجلته لدى البنك عند فتح الحساب، والسبب في ذلك هو أنني -مثل كثيرين غيري- توقفت عن استخدام القلم في الكتابة، وصارت معظم تعاملاتي البنكية عبر الإنترنت، حيث كل ما هو مطلوب منك لإجراء أي معاملة مصرفية هو كتابة اسم المستخدم (يوزر نيم) ورقم التعريف الشخصي المعروف بـ«بِن PIN»، وهي اختصار لـpersonal identification number، ثم اخترعت البنوك نظاما يجعل صاحب كل حساب بنكي يحصل على رقم «دولي» خاص يتضمن رمز البنك ورقم الحساب مع كوكتيل من الأرقام بمسمى «آيبان» international bank account number.
عندما كنا في المرحلة الابتدائية كنا نملك كتبا لـ«الخط» بها كلمات مطبوعة، وعلى التلميذ أن يتدرب على كتابتها بأسلوب يشابه المفردة المطبوعة، وحتى في غياب دروس الخط كان المعلمون يشددون على حسن رسم الكلمات، وإذا كنت ذا خط «شين» تجد في دفترك تعليقا يفيد برداءة خطك ويطالبك بإعادة «الكتابة»، وأحيانا أصادف مادة كتبتها امرأة وأقول لها: خطك رجالي، فترفع حاجبيها مستنكرة ومتأهبة لفاصل من الردح، فأبادر وأعميها وأنا أحاول أن أكحلها بقولي: خطك جميل والبنات عادة خطهن قبيح، وطالما نسبت إليها «الجمال» بشكل غير مباشر فإن النزعة العدوانية تختفي، وتهتف مبتسمة: بالله؟ وبدون زعل يا نساء فإن قبح طريقتكن في الكتابة «أمر الله»، فقد أعطاكن جمال الخلق والخُلُق، وحرمكن من جمال الخط، وأسأل الله أن يهبكن جمال «الحظ».. بالحاء.
وفي زمن كان فيه من يفكون الخط (هكذا نسمي من يعرف القراءة والكتابة في السودان) هم تلاميذ المدارس وخريجو كتاتيب تحفيظ القرآن، وكان عدد أفراد الفئتين محدودا، كنت باشكاتب قريتنا في النوبة السودانية، وأكتب رسائل النساء إلى أزواجهن في مختلف المهاجر، وكانت معظم -إن لم تكن جميع- الرسائل تتعلق بطلب مصاريف إضافية لمقابلة احتياجات طارئة، وكانت جارتنا ف. ف. تعتبرني مبروكًا على حد زعمها، فما كتبت رسالة إلى زوجها إلا لبى طلبها على وجه السرعة (صدقت أنني مبروك وفات عليّ كما فات عليها أن الزوج هو الجدير بالثناء لأنه يلبي النداء).
كانت جميع الرسائل في ذلك الزمان تبدأ بـ«حضرة المحترم فلان الفلاني»، ولا أذكر قط أنه تم تكليفي أو غيري بكتابة رسالة إلى امرأة، لأن السفر والهجرة والاغتراب كانت أمورا وقفا على الرجال، وكانت مقدمة كل رسالة ثابتة «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله أن تكونوا بخير وصحة كما نحن بخير وعافية، ولا ينقصنا سوى عدم مشاهدتكم الغالية»، والعبارة الأخيرة تعطي عكس المعنى المراد، ويكون ختام كل رسالة، «بلغ تحياتنا لجميع من بطرفكم، ويغريكم السلام فلان وفلانة». و«يغريكم» هذه هي الصيغة السائدة لـ«يقرئكم السلام» في السودان، حيث تصبح القاف غينا كما في زاويتي هذه التي ينبغي أن تكون «قائمة».
والشاهد هو أنني لم أعد قادرا على الكتابة مستخدما الورقة والقلم، بل -سبحان الله- أحس بأن أصابعي لا تطاوعني وهي تمسك بالقلم، في حين أن العلم يقول إن استخدام الكمبيوتر مدة طويلة يسبب آلام العنق والكتفين والرسغين، لكن حتى الكتابة على الكمبيوتر على وشك أن تصبح «موضة قديمة»، فقد توقف معظم الناس عن استخدام البريد الإلكتروني لتبادل الرسائل، بل صارت مستندات مسجلة في واتساب مقبولة عند عديد من الجهات التي تطالب بمستندات معينة لتسيير معاملات معينة، وميزة واتساب هو أنه بعكس البريد الإلكتروني لا يتطلب وضع عنوان ثم «موضوع» الرسالة، أو الكلام «الكثير»، بل صار يستخدم لتبادل نصوص مختصرة جدا (طبعا معظم النصوص المتداولة عبر واتساب للتسلية: تأتيك مادة طريفة فتحولها أنت بدورك إلى العشرات، وفي كل عيد أقع في حرج عندما يأتيني نص تهنئة جميل فأحوله إلى آخرين ثم أكتشف أنني أرسلتها وفي أسفلها اسم من أتتني منه).